• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

جدل الضرورة والحرّية

إدريس هاني

جدل الضرورة والحرّية

◄مشكلة الحداثة في الثقافة العربية الإسلامية ومسألة تعدد الثقافات، مقاربة في المنهج.

(وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات/ 13).

ـ هل الإنسان فعلاً له مكانته الحقيقية في العالم أم أنّه سيبقى مجرد رابض في إحدى منتجعاته الهامشية؟

ـ هل التاريخ يصنع الإنسان، أم أنّ التاريخ ـ عكس ذلك تماماً ـ هو حصيلة فعل هذا الأخير؟

ـ هل الإنسان ابن بيئته أم هو فاعل فيها، مستقل عنها؟

مشكلة التراث كنموذج

أنّ النمط الأكثر فعالية في بحث هذا الموضوع، هو ذلك الذي يستند إلى آلية لا تتقيد بالأسلوب الواحد في تحليل كافة مظاهر التراث، أي أنّها تضع كلّ أسلوب أمام ظاهرته الخاصّة، في ضوء إستراتيجية إرائية تنحو إلى إرساء توازن ما بين أسلوب البحث وموضوعه. فهي تراعي تداخل الحقول والأبعاد كافة، كما تراعي نسيج التداخل الثقافي التاريخي لهذا التراث، كما وفرته ظروف الاحتكاك والمقابسات الكبرى عبر تاريخها. وتبقى الخاصية الأساسية لهذا النمط المختار، تتمثّل في الانفتاح على الوجه الآخر لهذا التراث في كافة أبعاده، سواء ما كان يتعلق بنظرية المعرفة أم نظام القيم أو ما يتصل بالتصور العام للنظام السياسي وتدبير المدينة. وهو ما يدفعنا أكثر إلى تجاوز المعطى الواعي للتاريخ والقبض على المضمون اللاواعي لهذا التراث. فحينما ننفتح على هذا الوجه المغاير من التراث، نقع عادة أسرى لتلك الجريمة التقليدية المتمثّلة في عملية التهميش الكبرى التي طالت نواحي هذا التراث. لهذا السبب تحديداً لم يحفظ لنا تراثنا نحن العرب، من الوثائق عن الآخر التراثي المقصي، ما يجعلنا نقف على الصورة الشاملة والدقيقة لنزعاته ومكوناته. فالمطلوب اليوم هو تقديم هذا الوجه من التراث، بالكيفية ذاتها من الإصرار الذي يتم بها عرض الوجه المتمركز من التراث. وهذا النوع من العرض إنما ينحو باتجاه تقديم إراءة على قدر من الاستيعاب، وأيضاً، أراءة أمينة لمعطيات هذا الوجه المقصي من التراث، بغية فهم حقيقي له. ولهذا لازلنا نؤكّد بأنّ تراثنا لن نفهمه في كلّيته طالما أنّ هناك قسماً لا يزال ممنوعاً أو متمنعاً عن الفهم. فقد كان غياب الوثيقة وتناقض المنقول عن هذا التراث من قبل دوائر التدوين، قد جعل المخرج الوحيد لهذه الأزمة متوقفاً على نهج ظواهري مع كلّ ما يقدّمه هذا الهامش من معطيات. مع أنّنا هنا لا نغفل أنّ الاستناد إلى الأسلوب الظواهري ليس كافياً لتحقيق طموح القراءة الفعّالة للتراث.

وهذا هو حقّاً الفرق بين القراءة التاريخية التي تقف عند الشكل الخارجي، وبين القراءة التأويلية التي تنظر إلى الوثيقة كمدخل ليس إلّا، لفهم المضمون، بغض النظر عن حقيقة الشكل. فالمؤرخ يبحث عن صحّة الوثيقة بالنقد والمقارنة.. لكن المؤول، يستوي عنده الصحّة والكذب في هذا المجال، فهو باحث عن المضمون. فالوثيقة المكذوبة، والخير الكاذب عند المؤول، يتحوّل إلى وثيقة حقيقية لمعرفة أوضاع بكاملها.

بعد كلّ هذا يتعين علينا إيجاد نوع من المصالحة بين عدد من المناهج، وهذا لا يعني بالضرورة السقوط في توليفة تلفيقية جديدة، وإنما من حيث إنّ هذه المناهج مكملة لبعضها البعض. فالنظرة الشمولية لطبيعة العلاقة بين الإنسان ومحيطه وتاريخه.. تفرض علينا الخروج من تلك الدوائر الضيِّقة التي تفرضها المناهج.. هذه المصالحة تقوم على أُسس رؤية نقيضة لما يمكن أن ننعته بديكتاتوريا المناهج والأنساق الفكروية التي ابتليت بها العلوم الإنسانية، إذ حوّلت موضوع المعرفة إلى ساحة للتباري، ومن ثمة، التضحية بالمعرفة لمقاصد تقع خارج موضوعاتها. لقد أدركت جلّ المناهج، أهمية الأبعاد الأخرى، وقامت جهود كبيرة لردم الهوة ما بين التيارات النقيضة، سعياً إلى نوع من المصالحة وتخفيفاً لحدة الاصطدام. إنّ أي ثقافة كيفما كانت ظروفها التاريخية، تحتفظ لنفسها بخاصية ما، تمثّل محور علاقاتها الداخلية، وأيضاً جوهراً خفياً لنشاطها الواعي. فالحديث عن نظام معرفي تأسيساً على هذه القاعدة، هو أمر ضروري للغاية. إلّا أنّنا نواجه عاملاً آخر لا يسمح لنفسه بالإقصاء، ألا وهو "التاريخ". وبين هذين العاملين، يطفو عامل "الإرادة" كمخرج ثوري لجدل الضرورة والحرّية، وهو يقدّم نفسه كإشكالية ملحة. نحن بالتالي أمام حاجة لإعلان المصالحة مع ثالوث قوي الأضلاع: البنية/ التاريخ/ الإرادة. وحينما نتحدث عن ثالوث فهذا يعني بالأحرى، أنّ صلة ما تكاملية هناك بين هذه العناصر، الأمر الذي يجعل من العبث الحديث عن نوع من الانفصال. بل سوف يكون من المجازفة أن نردد السؤال: لمن الأسبقية؟ ولا حتى شعار: في البدء كان الإنسان، أو كانت البنية أو.. طالما أن الأمر لم يعد يحظ بتلك الأهمية، خصوصاً بعد أن أدرك المتبارون، بأنّ التمركز حول عامل واحد من هذه العوامل، يؤسس لفهم تجزيئي ومغلق، لا يؤدي إلى نتيجة بناءة. فالإنسان أوّلاً، لكنا لا نستطيع عزل الإنسان عن وضعه في العالم. كانت هناك بنية سابقة مغلقة، وكان الإنسان بعدها. وسواء جاء ليستلب فيها أو يمنح قدرة التحكم فيها.. فإنّ في الكون المتعاقب لبعضهما البعض، تتأكد تاريخية البنية والإنسان معاً! أي أنّ فعل الإنسان يجري في الزمن.. فهذا الأخير مادّته الأولى، والهيولى التي تتحقق بها صورة الفعل. ويسعى الإنسان إلى تغيير بُناه، فيجتهد في كسر طوق الضرورة من أجل بديل آخر. فعن طريق الحلم والتوقع يسعى الإنسان إلى تغيير أحواله، فتستهويه القطيعة. هذه الإرادة النافذة، تُفعل بنيتها، وفي الوقت ذاته تتوسل بمنطق التصوّر، أي تتحدد بمكر التاريخ بالمعنى الذي ذهب إليه (هيغل). فالإرادة في حد ذاتها لا تصنع تاريخاً عاماً، وإنّما تصنع تاريخها الخاص، في هذا المدى الزمني البعيد. فكلّ فعل يتم في الزمن. الفعل كما أنّه يقع في الزمان، فهو أيضاً بشكل ما يقع في المكان. والتأثير الذي يمكن أن يحدثه التاريخ، هو ذاته الذي يمكن أن تحدثه الجغرافية والبشرية.

أمامنا نماذج كثيرة، استهونت "الإنسان" وهي في ذلك أظهرت مفارقات عجيبة. فالإنسان وبشكل ما هو عند (ماركس) نتاج ضرورة تاريخية. وهو عند (ميشل فوكو)، بدعة حديثة للقرن الثامن عشر. لكنّنا نفاجأ حينما يتحدث البيان الشيوعي بلغة الاستنفار: "يا عمّال العالم اتحدوا"، أو حينما يقوم (فوكو) بدور سياسي دعماً للحرّية، فإذن، تاريخاية (ماركس) وبنيانية (فوكو)، المغلقتين لا تستغنيان عن الإنسان بمعناه الوجودي الحقّ، (الإنسان الحر). وهو ما يؤسس في نهاية المطاف لهذه المصالحة الحتمية بين أضلاع الثالوث السابق، وهي المصالحة التي تقوم على رؤية خاصّة للأشياء وليست نتيجة لتطُّوح المناهج.

نستطيع أن نقول بأنّ الحداثة التي تلخص لنا فلسفة الأنوار، شهدت رجة قوية مع قدوم (نيتشه)، الذي جعل منها ثمرة لأكذوبة صاغتها ألف سنة من الأوهام. فلكي يكون لإعلان موت الإله على الطريقة النيتشية، معنى، فإنّه قال قبل ذلك بموت الإنسان في شكله الأدنى، ليفسح المجال أمام إرادة الحياة. لكن شيئاً ما لم يغير حقيقة من جوهر هذه الحداثة، سلطتها النافذة من جهة، وتهافت الرؤية التائهة لخصوم المتيافيزقا الغربية. ومن هنا تحديداً، بدأت مسيرة جديدة لفعل النسيان، فسحت المجال لبروز أشكال من الضرورات القمعية؛ تاريخية وبنيانية.. جعلت في نهاية المطاف الإنسان في حدّ ذاته أسير تاريخه، أو معلولاً لقوانينه النفسية أو البيئية أو الاجتماعية. لقد ارتأت البنيانية، بأنّ من ضرورات وجودها، أن تجعل للإنسان دوراً هامشياً، وسلبياً داخل أنظمة كلّية مغلقة. ومع (فوكو) سيصادر هذا الهامش ذاته، ليتحوّل الإنسان إلى مجرد وهم من ابتكارات العصر الحديث. ولا ننسى أيضاً، أنّ التاريخ هو نفسه لن يحظى بتلك الأهمية الكبرى. فالموجود الفعلي هو هذا الكلّي الحصري حيث يظهر ويختفي، ويكرّر نفسه، ويتعالى على زمانيته، بل وعلى ذلك الوهم المطروح أمامه بإلحاح، ألا وهو الإنسان. وهكذا، فمن الطبيعي أن نسقط في اسوأ نموذج للقراءة، حينما تتجاوز البنيانية حدودها، كإجراء آني ضروري لفهم النظام، إلى مستوى النسق الكلي. أي إلى نفي مطلق لما هو جزئي فاعل خارج النظام!

لقد أدخلت الحداثة الجديدة، الإنسان في اغتراب جديد وخطير.. لا هو بالتاريخي ولا هو بغير ذلك من أشكال التعالي المطلق، بل اغتراب داخل أنساق ذهنية، هي في الواقع، إحدى أكبر الأوهام التي اخترعها الإنسان. أمّا من الجانب الآخر، فإنّ التاريخ لن يسمح لنفسه بالأدوار الدونية. فرواد النزعة التاريخية كانوا هم بحقّ ـ أكثر من أنصار العرقية ـ أكثر دُعاة النفي والإقصاء. وطبيعي حينئذ أن تكون الثقافة الأقوى، والأكثر عالمية، هي ما يستحق الاحتفال.. النزعة التاريخية تلغي الفوارق وتؤكّد على وحدة جنس الثقافات.. وتعزوا الاختلاف إلى قاعدة التطوّر.. وهي بذلك تنسف كلّ مقدّماتها العادلة، لإعطاء المبرر للأقوى في إلغاء الأضعف.. ومن هنا فإنّ التراث هو في وعي الباحث الأوروبي شكلاً بائداً ومتخلفاً من بين آلاف النماذج الثقافية التي تصارع التحدي بلا جدوى.

لقد تمت المصالحة يوماً ولو بصورة خجولة، ومع شيء من النفاق، بين البنية والتاريخ. وهو ما أتاح لنا فسحة لجعل الحوار مع الثقافة الغربية ـ ولو في جانب منها ـ ممكناً، هو ذلك الذي اتاحته الاتنولوجيا من إراءة أكثر حيوية وإيجابية بخصوص مفهوم الثقافة وتنوّع الحضارات. وهذا الفتح كان مفيداً جدّاً، لكسر الطوق عن الثقافة الغربية وإيقافها أمام حتمية التنوّع والتعايش بين أشكال الثقافات.

تطور الرؤية في ضوء الإثنولوجية

يطرح الفضاء البدائي تحدياً على الآلية التأريخية، من حيث غياب الوثيقة المقروءة الخازنة للحدث التاريخي، ولخلو هذا المحيط من أي ثقافة زمنية تحقيبية أو ممارسة كتابية تدوينية، وهما عماد النقد التاريخي. إذن عندنا مشكلة خبر. وليس أمام التاريخ سوى عنصر الخبر في تناول ماضي الشعوب.. والخبر هو ما تنقله الوثيقة.. وأهم الوثائق ما كان مكتوباً. والحال أنّ لا شيء من هذا القبيل داخل المحيط الذي نعته المؤرخون ـ لهذا السبب طبعاً ـ بالبدائي. فالخبر هنا لا أهمية له.. أنّه شيء يتكرّر.. وفي تكراره، كأنّنا أمام حالة من الاتحاد تجري داخل فضاء الزمان نفسه.. هناك إذن وحدة ثقافية يشهدها الزمان بتخارجاته وأبعاده الثلاثة. ولأنّ تحقيباً كهذا لا مكان له في ثقافة البدائي، حيث ليس له أي صورة بدائية عن حاضره تتجلى في ماضيه.. ولا شكلاً غائياً يسعى إلى إنجازه.. فهي ثقافة تتعالى على الزمان ولا تُقاس به.. فكيف نتحدث عن تاريخ لهذه الشعوب، إذا كان الحاضر نسخة إلى الحاضر نسخة أخرى عن الماضي، وإن كان الحاضر خالياً من هاجس التطور، لأنّه يطرح كحالة من الإشباع الذاتي والشعور بالكمال، فلماذا التاريخ؟

لاشك أنّ الغاية من التاريخ هو عرض ماضي الشعوب والأُمم، لتبيّن النقلة بين أطوارها من الماضي حتى الحاضر، قصد الاستفادة منه لصالح المستقبل. لكنّنا أمام هذا المحيط اللاكتابي، لا نجد تلك المسافة، ولا الحاجة إلى أي نوع من الانتقال. هذا هو باختصار، المبرر الذي قامت عليه الإثنولوجيا، وعلى أساسه أعلن التاريخ استقالته من المحيط البدائي. وقد كان من شأن الإثنولوجيا الكلاسيكية، أن تكرس الشعارات التاريخية على هذا المجال. لقد ربط المؤرخون بين التاريخ والكتابة، وهنا تكمن المشكلة! فإذا لم يجد شعب من هذه الشعوب، حاجة إلى الكتابة، فهذا لا يعني أنّنا أمام حالة ينعدم فيها التاريخ، إلى جانب الإنسان والبنية. والحال، وكما ستكشفه الثورة الإثنولوجية الجديدة، أنّ لهذه الشعوب أيضاً تاريخها، فلا يهم إن كان يجري على غير مجرى التاريخ العام. فإذا كان معيار التطوّر، هو أن نستوعب بشكل ما، قانون الطبيعة، فإنّ شعوب الأسكيمو، وأدغال أفريقيا، استطاعوا أن يبعدوا عنهم خطر هذا التحدي. ولا نعرف حتى الآن، ذلك المشوار الزمني ـ التاريخي الذي قطعته هذه الشعوب في سبيل تحقيق هذا التحدي للمحيط، خصوصاً وأنّ بعضاً من تلك الأساليب لا تقل مهارة ودقة عن أسلوب التقنية في المجتمعات المعاصرة. كان عليها إذن أن تفهم وضع شعوب كهذه في أزمنة غابرة، وجدت في الأدغال والصحارى الرملية والجليدية.. كان التكيف بالتالي هو الوسيلة الأنجع للتحدي.. فحتى ذلك الوقت كانت الشعوب بما ابتكرته من أساليب التكيف ورد التحدي، تمثل المجتمعات الأرقى في العالم. فإذا أقر (ماسينيون) بأنّ العرب كانوا على حقّ لأنّهم لا يمكنهم تهميش العالم. فمن حقّها من باب أولى، أن تصنع لها تاريخها الخاص، لأنّها أيضاً لا يمكنها بناء حضارة في محيطها الأمازوني والاستوائي أو أن تقيم مدنية متطوّرة في صحارى الأسكيمو الجليدية؟

إنّنا أن تعاملنا مع الثقافات الأخرى من منظور مغاير ووفق معايير أخرى، فسوف ندرك لا محالة، أنّ بعضاً منها دائماً يحتفظ برصيد من التفوق على الآخر. هكذا يستطيع الشرق أن يتحدث عن تفوقه في مجال الروح.. وشعوب الأسكيمو، تكون أكثر تفوقاً بسيطرتها على أقصى بيئة وأخطرها على الإنسان.

نحن والتراث

إنّ الحديث عن علاقة التراث بالحداثة، هو في جوهره، حديث تاريخي. أي بما أنّ التراث يمثّل شكلاً متجاوزاً لعصرنا. وهنا تطفوا عدة استفهامات، نحن مَن؟ هل المقصود بالـ "نحن" ما نستدمجه من أنوية غربية في نسقها الثقافي المغاير؟ أم يُراد من سؤالنا نحن العرب والمسلمين؟

في الواقع إنّ القضية تحتاج إلى جوابين. فالتراث العربي ـ الإسلامي في هذا الضوء، هو نسق مغاير للثقافة الغربية ويمثل بالنسبة إليها، الآخر ـ الغريب. أمّا فيما يتصل براهننا العربي ـ الإسلامي، فالأمر على درجة قصوى من الاختلاف، لأنّنا نعيش لحظة حرجة من سريان نظامنا المعرفي التراثي، في صورة مضطربة، أي أنّنا نعيش بروز هذا النظام، بشكله المغلق، المعزول، بآلياته البسيطة، في صورة ما نطلق عليها أصولية أو سلفية صريحة.. أو عقل مصارع لنفسه متمثّل لتقنية الآخر، في تقريب الهوة، رغبة في التعايش، يسميه البعض تحديث وتجديد و.. أو في صورة إصرار على التجاوز، يعبر عن حالة عجز عن إيجاد أسلوب للتعبير عن الذات في عالم، تظهره سلطة التعقيد والقوّة بمظهر العالم المتغير. فما كان لجدل كهذا أن يثار في الأوساط الثقافية العربية لولا تنامي الشعور بالغبن أمام صدمة الحداثة. هذه التي حملتها لنا جيوش الاستعمار في غزو شامل للبلاد العربية. وعلى الرغم من أنّ حركات التحرّر الوطني العربي ـ الإسلامي، كانت قد استلهمت إصرارها وتمنعها في موقع تميزها الثقافي وثراء موروثها الحضاري، موحية بأنّ ما حدث من تفاوت، إنما هو في القوّة، وهو نتيجة وعكة، استغلها ممثّلون فاشلون لقوّة حضارية واعدة. أدرك المثقف العربي يومها أنّ المعركة غير متكافئة، وهم لم يطلبوا أكثر من فترة، لاستنهاض قواهم مجدداً، واللحاق السريع بالركب الحضاري الأوروبي، لكن المستعمر، ما أراد أن يمنح هذه الفرصة لكيان ثقافي يدرك تماماً، أنّه طموح وذو كفاءة عالية للمنافسة. لقد خرج المستعمر من البلاد العربية ـ الإسلامية، وترك حيازم أمنية داخل أقطارها. هكذا فتح جيل كامل عينيه على كيان لا يملك فيه قراراً. فكان اقتصادنا هو ما يخططون له واجتماعنا وثقافتنا هي ما يقرأونه ويحددونه.. وسياستنا هي ما يملونها ويصنعون قرارها. فإن كان الغرب لم يفلح في أن يبيدنا كما كان شأنه مع الهنود الحمر في أمريكا، فإنّهم راقبونا وحاصرونا وحاربونا حتى لا نعود مجدداً إلى الواجهة. كان هذا القدر من الوعي حاضراً بصورة ما في ذهن حركات التحرّر الوطني في البلاد العربية والإسلامية. لكن الأمور سرعان ما تغيرت. وبدلاً من أن تزداد تمنعاً تحت طائلة الإرهاب الثقافي، نحت منحى سهلاً، وسلكت مسلكاً مريحاً، فالتفتت إلى نفسها، فإذا بها تتقزز من صورتها ومن وجهها الذميم، وركودها أمام ركب حضاري سريع الخطو. فأعلنت حينها المصالحة مع مقاصده، وجردت سيف الخصومة على ذاتها.. فكان التراث هو هذا الميدان الذي جرت عليه الجولة الأخرى من الصراع. في ضوء هذا الانقلاب في الموقف من الذات، برزت إشكالية التراث، كمسؤول عما نحن عليه من انحطاط. فكان السؤال التقليدي ـ البسيط: لماذا تقدّم الآخرون وتخلّفنا؟ وكان أولى أن يطرحوا هذا السؤال بهذه الكيفية: لماذا ضعف المسلمون والعرب وقوي غيرهم؟

إنّ وضعنا في العالم العربي ـ الإسلامي، لا يمسح لنا بالنظر إلى التراث من موقع أعلى. لأنّنا نقف على أرضية أدنى من ذلك. بل نعيش لحظة حرجة من وجودنا الحضاري. هذا لا يعني أنّ نقد التراث أمر مستحيل علينا، بل إنّ هذا النقد غداً مسؤولية على عاتق المثقفين، على أساس من الاجتهاد وبدل الوسع. لكن ما نراه الآن، هو تمثّل باهت لتراث الأغيار، وممارسة نقدية استفزازية تلخص اضطراباً باتولوجياً. إنّ شعار "نحن والتراث" مقابلة وهمية، لأنّنا نحن لازلنا هذا التراث في صورته الأدنى!

الإسلام في ضوء التقرير الإثنولوجي

أسجل ابتداءاً، بأنّ الإسلام كان الحدث الأهم الذي ساهم في نقل المجتمع العربي من طور الثقافة البسيطة والقارة نسبياً، إلى مرحلة الثقافة المركبة، والوعي الزمني والنص المكتوب. لذا فإنّ الحديث من وجهة نظر تاريخية يفرض التعاطي مع الثقافة العربية بصفتها هذا المركب التاريخي العربي الإسلامي. وبما أنّ المجتمع العربي الإسلامي حينئذ كان قد خطى خطوة رائدة في مسار تطوري متواصل، يستند إلى رؤية شمولية ويتأطر بمنظور مستقبلي بعيد المدى. كان من حقّ الإثنولوجيا هذه المرة، أن تعلن استقالتها مادام الإسلام، يخرج عن اختصاصها. إنّنا بالتالي أمام تراث مدوّن، نستطيع من خلاله الوصول عبر السبر والتأويل إلى أعمق بيناته. وفي البداية، أرى من المفيد أن أشير إلى تلك الحيرة المشهورة على رائد الإثنولوجيا البنيانية، بخصوص الإسلام.

يذكر (ستراوس) في المدارات الحزينة، بأنّه صادف أثناء رحلته في القطار بين كاشمير وراوالبندي، حدثاً غريباً ـ مع أنّ الغرابة أمر شاذ في عُرف الإثنولوجيا البنيانية ـ يتعلق الأمر بامرأة باكستانية مسلمة، برفقة زوجها وأبنائها. كانت المرأة حسب وصف الكاتب منطوية على نفسها، مديرة ظهرها للغريب ـ أي ستراوس ـ مصرة على عزلتها. كان لابدّ على العائلة أن تنقسم إلى قسمين: الأُم والأبناء في الجناح المخصص للنساء، في حين ظل الأب يحتل الأماكن المحجوزة، ناظراً إلى الزائر الغريب شرزاً.

كان ذلك الموقف المحرج للإثنولوجي الفرنسي، المبرر اليتيم، لكي يمضي في عنفه ـ بلا هوادة ـ ضد الإسلام، ناسجاً له صورة قاتمة، لا تكاد تمت بصلة لذلك المنهج الذي أرساه قبلاً. الصورة التي حاكها عن الإسلام، نتيجة شعور عارم بالقلق تجاه تاريخية الإسلام المحيرة. هذا الأخير الذي ما كان له أن يظهر في هذه البقعة من العالم، فيما لو نجحت محاولة الاتحاد بين العالم المتوسطي والهند.

ففي النتيجة كانت الصورة التي حاكها (ستراوس) عن الإسلام، زاخرة بأنواع التهم، والعنف الذي يقوم على التسرع في إصدار الأحكام. عنف ناتج عن جهل أو تجاهل، يجعل أحكام الإثنولوجي المتمرس في البحث لا تختلف عن حكم أي زائر عادي، يعتمد الرؤية المحددة، وينأى عن مصادر المعرفة بالآخر. ويظهر أنّ (ستراوس) أثناء دفاعه المستميت عن وثنية الهنود مقابل ما يصفه بديكتاتورية التوحيد الإسلامي، كان يخطو الخطوة ذاتها التي قام بها يهود الجزيرة العربية أيام البعثة حيث رموا بالتوراة جانباً، وراحوا يساندون الوثنيين العرب في معاركهم ضد التوحيد، ويمدحون في معتقدات المشركين، هذا بعد أن كانوا يحتكرون التبشير بذلك قبل ورود الإسلام.

إنّ العتاب الأوّل على رائد الإثنولوجيا البنيانية، هو أنّه تنكر لكلّ النتائج التي توصل إليها أثناء أبحاثه الميدانية في أدغال الأمازون. فإذا كان قد جاهد لإيجاد تفسير لأكثر الأشكال الثقافية غموضاً، كيف يعلن عن عجزه وقلقه أمام تاريخية الإسلام. هذا ناهيك عن أنّه استند في موقفه على أعراف معاشة، متناسياً أنّ الإسلام ينتمي إلى نُسق الثقافة المدونة والنص المكتوب. فعندما يعوز الباحث الأوروبي إلى القدر الكافي من المعلومات عن المجتمع والتاريخ الإسلاميين.. هاهنا يكون العود التقليدي إلى الرصيد الاستشراقي. وهو ما رأيناه ـ فعلاً ـ عند (ستراوس)، وهو أكبر رافض للأحكام المعيارية الأنوية. إنّ الأمر يتعلق بازدواجية يفرضها وجود عالم الأجناس في جزء من العالم الإسلامي، لا يتمثّل بالضرورة الصورة الحقيقية عن المجال كلّه. نظراً لتميز البنية الثقافية لهذا المجال، بتعدّد الأشكال والألوان والتجارب والخصوصيات. نحن أمام ظاهرة ثقافية يتداخل فيها الروحي بالمعيشي، وتصطبغ بأشكال اجتماعية وأنساق حضارية مختلفة من الصعوبة بمكان استقراءها من خلال التأمّل السريع في بؤرة محدودة.

تصحيح المنظور إلى الحضارة العربية ـ الإسلامية

في البدء، يتعيّن علينا الاعتراف بحقيقة انتماء الثقافة العربية والإسلامية إلى نسق الثقافة التاريخية ذات الإيقاع التطوري الشبيه بالتاريخ الغربي تماماً. أي بتعبير آخر، لا تنتمي إلى جنس الثقافات "الباردة" ـ بتعبير (ستراوس) أو الكيانات الاجتماعية القارة واللاتاريخية - فكل مقومات الثقافة التطورية متوفرة في هذا النسق، بدءاً بامتلاكه الذاكرة المدونة القادرة على توفير الإرادة اللازمة للوقوف عند البنى اللاواعية لهذه الثقافة، من حيث أنّها شهدت أطواراً وتغيرات إلى جانب حفاظها على بنيتها الثابتة.. مروراً بامتلاكها رؤية إنسانية شمولية من حيث أنّها تقدّم نفسها بصفتها العالمية. إنّ المجتمع العربي والإسلامي، هو مجتمع كتابة ودولة ورؤية تاريخية. فعلى الرغم من أنّ المجتمع العربي ما قبل الإسلام، أي المجتمع الجاهلي، كان قد شهد سلسلة من التحوّلات المهمّة على صعيد تكامل الخطّ والكتابة وبداية تشكّل الملامح الأولى للتدوين في صورة ما، إلّا أنّ الإسلام يبقى هو الحدث الأبرز في تاريخ الكيان العربي. لقد أدى إلى توسيع نطاق الجماعة العربية بفعل المصاهرة والمثاقفة، لكي يصبح المجتمع العربي يضم أجناساً وأعراقاً مختلفة؛ تم هذا الاختراق بفعل الدعوة والفتوح الإسلامية.

إنّ الثقافة العربية الإسلامية من هنا، هي ثمرة لهذا التثاقف المعجز، الذي استطاع في فترة وجيزة من الزمان أن يكوّن أرقى حضارة في العالم. وهذا حقّاً ما يعود بنا إلى ما قرره (ستراوس) آنفاً، بأنّ مشكلة ضعف الثقافات يكمن في عزلتها وعدم تواصلها. لكن كيف تم هذا التواصل؟ (ستراوس)، يتحدّث هنا عن أسلوب وحشي. لم يكلّف نفسه مشقة فهم فلسفة الجهاد الإسلامي وأبعاده مثل ما قضى شطراً من حياته في أمازونياً، يفكك أسطورة الأرنب البري والشفاه الشرماء.. إنّ الازدواجية في المعايير واضحة هنا.. فقد تعامل (ستراوس) بصورة ظواهرية مع الثقافة الإسلامية. والمُشكل هنا، أنّ (ستراوس) تجاهل حقيقة تاريخية، وهي أنّ الإسلام استطاع الاتصال بكافة الشعوب ومختلف الأنساق الثقافية بروح الاكتشاف والتعارف والمقابسة. فالفتوحات التاريخية الإسلامية ـ مع كلّ الملاحظات التي تثار حولها ـ لم تكن تشبه حركة الإبادة التي قام بها المستعمر الغربي في سبيل نهب الشعوب.

فهي حركة كانت تهدف إلى توسيع رسالة التوحيد، لتشمل العالم. و(ستراوس) يدرك ذلك دون أن يعي ما يقول. لقد سبق وأكد، بأنّ الأخوة في الإسلام، ليست اقتصادية أو اجتماعية، بل هي ثقافية دينية. ويكفي هذا دليلاً على أنّ حركة الفتوح الإسلامية في مضمونها الرسالي المقنّن في نصوصها المرجعية، هي حركة حضارية بالمعنى الذي تفيده عملية نقل الأفكار، وليس حركة مادّية لاستعمار ونهب الآخر، كما هو الحال بالنسبة لحركة الإبادة الغربية. فخلال هذا المدّ، لم يكن من الغرابة أن يحكم أهل فارس العالم الإسلامي أو الأتراك أو العرب أو.. إنّها أكثر أنواع المصاهرة نجاحاً في تاريخ الثقافات. أمّا اتّهام الإسلام بإبادة كلّ سابق من أجل ثقافته، فإنّ تاريخاً كاملاً من الفتوح والنشاط الإسلامي، أظهر مدى قدرتهم على احتواء كلّ الثقافات، بل والسعي إلى إحياءها. فالمهمّة الأساسية ، هي "التوحيد". إنّ الحركة العربية الإسلامية تجاه فارس مثلاً، لم تكن لتلغي تراثاً ثقافياً بهذه الأهمية. لقد بقيت فارس تحتل مكان الريادة في تاريخ الحضارة الإسلامية، وأخذ عنها الفاتح العربي المسلم كلّ ما رآه إيجابياً. لقد كانت هذه الفتوح مزدوجة الأبعاد. فهي من ناحية، حركة للتعارف والاكتشاف، ما يؤكد على منحاها التثاقفي السلبي، وحركة للتنوير والتثقيف، وهو ما يعبّر عن المنحى التثاقفي الإيجابي. لقد قدم الفاتح العربي والمسلم إلى فارس فكرة التوحيد حيث ظل يتخبط فيها الفكر الفارسي القديم، كان التوحيد الخطوة الحاسمة للقضاء على الوثنية الفارسية. لكن مع ذلك، أفاد هذا الفاتح من كلّ الإنجازات الحضارية لفارس من دون أي شعور بالتعالي. كما استطاع الفاتح أن يقترب من شعوب بدائية من دون أن يلجأ إلى أسلوب الإبادة أو تشكيل أسواق الرقيق. فقد أدخل الإسلام شعوباً أفريقية إلى دورته الحضارية التاريخية. فكان نجاح الإسلام في أفريقيا غير مسبوق بالعنف. لذا كان بإمكانه النجاح في العالم كلّه لو أُتيحت له فرصة المضي في حركته التثاقفية. ووجود ملايين المسلمين في بلاد الغرب، أكبر دليل على أنّ الثقافة العربية الإسلامية تملك أن ترقى مستوى البديل الحضاري عن الغرب.

لقد حدد الإسلام التعامل مع الآخر على أساس التعارف، (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات/ 13). وهذا التعارف ينبني على قيمة جوهرية، هي السلام.

فقد كانت فكرة التوحيد بمثابة الخطوة الحاسمة في إرساء السلام بدءاً، في صميم التصوّر الإنساني للعالم. فالشرك بما يتركه من تمزق في عالم التصوّر، وأيضاً من صارع في واقع الكيانات الاجتماعية والثقافية، لقي نهايته مع الحدث الإسلامي.

فالجهاد في الإسلام من حيث هو مقارعة القوّة بالقوّة، ليس سوى مرحلة انتقالية في هذا المنظور الإسلامي الذي لا يستند إلى العنف في علمية التبشير بعقيدته فـ(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256).

فالعنف في الإسلام، هو مقدّس، من حيث هو دفاعي، فهو خيار يفرضه الآخر في تعامله مع الإسلام. هذا الحقيقة يتعيّن أخذها بعين الاعتبار، خصوصاً وأنّ التاريخ يشهد، بأنّ عدداً من البلدان، دخلها الإسلام من دون قوّة، كبلاد الصين والهند وأفريقيا السوداء. فالجهاد هو حركة في سبيل تعميم فكرة "التوحيد"، (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) (النساء/ 75). الجهاد بمعنى التدافع بالقوّة، هو رهان مؤقت في التصوّر الإسلامي للعلاقة بين المسلمين والكيانات الأخرى، لأنّ هناك ما هو جوهري، جهاد النفس ـ الجهاد الأكبر ـ بما هو حركة دائمة للانتصار على النفس أوّلاً، قبل أن تنطلق في حركتها الرسالية نحو الآخر. هناك بالتالي فقه متكامل، ورؤية شمولية تحتفظ بها المدونات المرجعية للإسلام، تحدد المفهوم القيمي لفلسفة الجهاد الإسلامي من حيث الوسائل والأهداف، وتؤطر علاقة المسلم بالآخر في حال السلم كما في حال الحرب. فالآخر من حيث المبدأ يحتفظ بمكانته كإنسان، بناء على مبدأ الأخوة العامّة، فخلافاً لما قرره (ستراوس) بخصوص الأخوّة الدينية، ينطلق الفكر الإسلامي إلى أبعد حدوده في تكريم الآخر، من منطلق انسانيته فـ"الإنسان إمّا أخٌ لك في الدِّين أو نظيرٌ لك في الخلق".

الثقافة العربية الإسلامية ورهان الحداثة

في ضوء ما سلف، لا نرى في الحداثة سوى بضاعتنا ردّت إلينا، مع الفارق هذه المرة أنّنا قدّمناها عبر إقباس حر في الجامعات التي أنشئت في البلدان التي خضعت للفتوح الثقافية الإسلامية. بينما الحداثة اليوم، تقدّم لنا بابتزاز، وتقصرنا على ضروب من الارتهان، لسيادة عرقية. المشكلة اليوم، أنّ خطاب الحداثة يتبناه كيان حضاري صنع تاريخه على أساس العنف، فكانت نظرته للآخر، لا تتجاوز كونه سوقاً لترويج بضاعته.

إذا أصبحت مشكلة الحداثة شأناً داخلياً يتحدد بمدى تفاعل الإنسان العربي مع منظومته الثقافية، فهذا معناه، أنّ المتهم الأوّل فيما نحن عليه من تردي، هو الإنسان العربي نفسه. والحال أنّ هناك عوامل شتّى قد تحول دون إدراك المضمون الثقافي الذي يجعل الحداثة قضية ملحة في راهن العرب. ولعلّ النسبة المئوية المهولة للأُمية في الوطن العربي، هي أكبر عامل وراء هذه القطيعة والفصام الخطير بين الإنسان العربي وثقافته.

جدل الضرورة والحرّية في الفكر الإسلامي

للإنسان في الفكر الإسلامي، مكانة خاصّة. فهو من جهة، محور أساسي للخطاب الإلهي، وغاية العمران، والمسلط على الأرض، هذا ما تعكسه النصوص المرجعية للفكر الإسلامي حيث: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70). (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4). (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30).

غير أنّ هذه القيمة ليست معطىً للإنسان بوصفه كينونة منفلتة من النظام، أو بصفته إرادة مطلقة السلطان.. بل إنّ أصل قيمته رهين بأداء الأمانة واتصاله بالناموس. فكلّ النصوص الحاكية عن الإنسان المتفوق، والكامل، إنّما تربط هذه السيرورة التكاملية بوصفها سيرورة داخل النظام، وليس خارجه. فالإنسان مثله كباقي الموجودات الأخرى، مطالب بالانضمام إلى حركة الناموس: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران/ 83). لذا فإنّ الإخلال بهذا الشرط، يجعل الإنسان أقل شأناً في الوجود فيرتكس مرة ثانية. (إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا) ( الفرقان/ 44).

إنّ مكانة النظام في التصوّر الإسلامي، تطرح كواقع قائم، يشمل كافة الوجودات. والإنسان أمام هذه القوانين يحتل موقعاً متواضعاً، فلا طريق أمامه لنيل الكمال إلّا بمزيد من الاتصال بالنظام (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلا) (فاطر/ 43).

فليس أمام الإنسان سوى التوسل بالقوانين، والانضمام إلى النظام، في سعيه إلى الكمال. إنّه وجود حرّ، لكن في نظام.. ومخيَّر لكن مسؤول، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8). إنّ الإنسان في التصوّر الإسلامي مدعو إلى العمل، والارتقاء بوضعه، في سيرورة متواصلة. إنّه ضرب من الكدح لبلوغ الكمال (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق/ 6). فهو من مرتهن لكده وعمله:

لقد تميّزت نظرة الإسلام إلى مبدأ الحرّية والضرورة، بحيث انتهت إلى إقرار فلسفة متوازنة من شأنها إزاحة كلّ التصوّرات السلبية ـ من أمام الإنسان ـ التي تختزل وجوده في صورة عدم، أو باب مسدود، أو زمانية متناهية.. فالإنسان داخل النظام يمكنه، ليس فقط تغيير أحواله، بل وأيضاً تدارك أخطائه.

إذن، نحن أمام رؤية متوازنة ومتداخلة بين مبدأ الحرّية ومبدأ الجبر.. ما بين البنية والتاريخ والإنسان. يستطيع الفكر العربي الإسلامي المعاصر، أن يجعلها مطية لتحقيق انطلاقة واضحة باتجاه الحداثة. فهذه الأخيرة ليست في الحقيقة مشكلة في الثقافة العربية الإسلامية، بل هي إشكالية علاقة ما بين الإنسان العربي ووعيه بجوهر ثقافته. أي أنّه مرتهن لخيارات خاطئة، تجعله يتصوّر بأنّ الحداثة ـ في صورتها الغربية النموذجية ـ مسألة متاحة بمجرد التهوين من هُويّته، والانضمام اللامشروط في المنظومة الثقافية الغربية ـ وهذا خيار يتجاهل مضاعفات الاستيلاب الثقافي ـ أو أنّها قضية مستحيلة، وهو ما يجعل منها مسألة عرقية، والحال، أنّنا أمام رؤية قاصرة، لا تنظر إلى المشكلة من زاوية توازن الأبعاد الثلاثة داخل كلّ مشروع حضاري، أي البنية والتاريخ والإرادة! فالحداثة تختزل نفسها اليوم في رهان القوّة. وكان الغرب النموذج الأمثل في تحقيق هذا التفوق على صعيد امتلاك الطاقة اللازمة للسيطرة على الطبيعة. لكن، مع الأسف، لا يملك خياراً آخر في موازات ذلك التطلع الهستيري المستمر إلى مصادر القوّة، والطاقة.

إنّ القوّة، مطلب رئيسي في الإسلام، (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال/ 60). لكنّها ليست هدفاً أسمى، إذا ما تحوّلت إلى غاية مستقلة بذاتها. إنّ تحقيق كلّ هذا الوثب، الذي قد يعرض البشرية كلّها ـ وقد عرضها فعلاً ـ إلى أخطر أنواع الدمار، لا يتم بالقوّة فقط. فالغرب اليوم يدفع ضريبة جنونه، واختياره. لأنّ هدفه في تحقيق السيطرة التامة على الطبيعة لم يتم قط. وكلّما تطورت المدنية وتعاظمت وسائل السيطرة، كما أنتجت مظاهر أخرى من التحدي. لقد كان الإنسان بالأمس، يموت بسبب الحمى العابرة والميكروب الضعيف، وهو اليوم يموت من الإيدز والاكتئاب.. لقد أدى الاختيار الأرعن لحضارة جعلت هدفها الرئيسي، البحث عن الطاقة، أن تجعل الأرض تحت رحمة الطاقة نفسها. واستطاع الغرب أن يصنع ما من شأنه تدمير الأرض، لكنّه لم يتمكن من صُنع ما ينقذ به البشرية من مخاطر التدفق النووي. وهكذا بات الإنسان ـ الذي كان حتى الأمس القريب يعيش آمنا داخل كياناته الاجتماعية الأولى ـ لا يجد الأمان من أي شيء. فغدا الحديث يومياً، عن الأمن الصحّي والأمن الغذائي، والأمن الثقافي.. فأي سلام وأي أمان، جاءت به حداثة الإنسان الغربي. وهذا بالتأكيد لا يعني أنّ طريق التحدي الذي سلكته الحداثة خاطئ من حيث المبدأ، بل لأنّه طريق يتجاهل المدى الآخر للحياة، والأبعاد الروحية للإنسان.►

 

 المصدر: مجلة الكلمة، العدد 24لسنة 1999م

ارسال التعليق

Top